Mastodon رؤى: الجنس في الإسلام (طبيعة لا خطيئة )

الجنس في الإسلام (طبيعة لا خطيئة )

 

ثمّة آراء إسلامية عدّة تعزز من فكرة اعتبار الجنس تجربة روحية. لقد وضع المتصوفة على رأس هرم الأولياء الصالحين "القطب". وعندما يصف محي الدين بن عربي "القطب"، ينسب امتيازه عن غيره من العامة أو حتى الأولياء، إلى مسائل من بينها تجربته الروحية الخاصة في النكاح. قال ابن عربي في كتابه الأشهر "الفتوحات المكية": "يعلم (القطب) من تجلّي النكاح ما يُحرضه على طلبه، والتعشّق به. لا يتحقق قط بالعبودية في شيء أكثر مما يتحقق به في النكاح. لا يرغب في النكاح للنسل، وإنما يرغب فيه لمجرد الشهوة وإحضار التناسل في نفسه لأمر مشروع. فنكاحه لمجرد اللذة كنكاح أهل الجنة. وقد غاب عن هذه الحقيقة أكثر العارفين، لما فيه من شهود الضعف وقهر اللذة المغيبة له عن إحساسه، فهو قهر لذيذ. وذلك من خصائص الأنبياء. ولعلوّ مراقي هذا المقام، جهله أكثر الأولياء". وقد وذكر داود سلمان الشويلي في بحثه "الجنس في التراث العربي" أكثر من 195 كتاباً متنوعاً تناولت الجنس، وُضعت في عصور إسلامية مختلفة، من بينها كتب موسوعية كالأغاني للأصفهاني، والأذكياء لابن الجوزي، وطوق الحمامة لابن حزم، وفهرست ابن النديم، وبينها نحو 11 كتاباً للإمام السيوطي وحده. وأكّد الشويلي أن ما حصره لا يعد إلا جزءاً من مئات المصنفات في هذه المسألة. وقد كان العرب هم الأمة الوحيدة التي تَعُدّ الجنس نعمة، وتشكر الله على هذه المتعة. إذ يستهل الشيخ الإمام العلامة سيدي محمد النفزاوي كتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر" بـ: "الحمد لله الذي جعل اللذة الكبرى للرجال، في (...) النساء، وجعلها للنساء في (...) الرجال"




فالثقافة العربية منفتحة على الجنس قبل الاسلام وفي اثنائه وبعده، باعتباره موضوعاً طبيعياً، لا خطر في تناوله او الحديث عنه من أيّ بعد. واذ كان القرآن الكريم -وهو كتابٌ تعبديّ يتلوه لذلك الكبار والصغار- يحفل بالمفردات والاشارات الجنسية في لغة مباشرة او مجازية، فإنه امتنع عن ان يحذر -ولو مرة واحدة- من التصريح بالجنس ومفرداته والاعلان عنه، اي ان الكتاب الكريم قد خلا خلوا تاما -وكذلك الحديث الشريف- من أية اشارة تنبئ عن ان هذا الموضوع من المحظورات، بل على العكس من ذلك راحا -القرآن والحديث- يشرحان ويفصلان بلا أدنى حرج اجتماعي أو ثقافي.
لقد كان القرآن الكريم -لو أراد الله- يستطيع ان يبكّت الجنس لو كان يسيء به ظنا، او لو كان شرا من تلك الشرور التي تؤذي البدن او النفس والروح او تعتدي على الآخر. وكانت الحالة الوحيدة التي حظرها حظرا “الزنا”. ولكن الاسلام الذي هو انسجام كامل مع الطبيعة وقوانينها، أعلى من قيمة الجنس في حياة الناس، ودفع إليه -عبر مؤسسة الزواج طبعا- وحث عليه “تناكحوا تناسلوا”، و”انكحوا الأيامى منكم والصالحين”. بل ان مصطلح “النكاح” -الذي هو فعل الجنس- صار يعني في الاسلام “الزواج”، مما ينبئ عن وضوح اللغة والمشرع في تناول الجنس خالصا -هذا التناول- من اي ادانة اخلاقية، او اشمئزاز حضريّ. كذلك تنوعت أساليب معالجة الموضوع ما بين الأدبية والعلمية. وكان أكثر ما لفت الانتباه، هو أن أغلب من خاضوا في هذا الأمر، هم من علماء الدين الفقهاء والمحدّثين، وكانوا يوردون في كتاباتهم القصص والحكايات والنوادر، فيفصّلونها، ويبوّبونها تبويبات منهجية، دون إطلاق أحكام. ومنهم عالم الدين الموسوعي الإمام السيوطي، وقاضي قضاة الإسكندرية التيفاشي صاحب "نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب"، والعالم الأصولي ابن حزم الأندلسي، وعالم الدين وقاضي الأنكحة في تونس النفزاوي، والشيخ الأزهري يوسف الشربيني صاحب كتاب "هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف". في كتابه "الحب والجنس في الإسلام"، رأى فوزي محمد أبو زيد أن "الإسلام تناول موضوع الجنس بالوضوح الكافي والشفافية اللازمة، وما ترك فيه باباً إلا وأتمّ بحثه وبيانه لجميع أفراد المجتمع". في العصور اللاحقة على القرن الأول للإسلام، كان علماء المسلمين يتناولون في دراساتهم موضوع الجنس. بل كان بعض ملوك وأمراء المسلمين يطلبون منهم التأليف في الموضوع، فيعرضون لطرق الجماع وأوضاعه، أو لحال المجتمع مع الجنس، وأنواعه وطرائقه، الشرعية وغير الشرعية. هذا، ولفت العديد من دارسي التراث الجنساني في التاريخ الإسلامي، تصريح المؤلفين بالمسميات كما هي، دون مواربة، بصورة ربما يستعصي علينا أن نذكرها كما هي في الوقت الحالي. ولكن الثقافة العربية في عهودها الاخيرة -وهي ثقافة ذكورية عالية الصوت، صارمة الفعل- ربطت بين المرأة والجنس ربطا جعل من المرأة كائنة جنسية تنضح بالجنس -من وجهة نظر الرجل- ومن ثم بالإغواء. فصار لزاما عليه ان يحارب الجنس في اللغة والخطاب والفنون والآداب، لأنها -في رأي هؤلاء- “تفضح المرأة في خصوصيتها، وتكشف عورتها”. واين كانت تلك الخصوصية اذن في زمن الرسول الكريم الذي كانت تسأله نساء المدينة فيها حتى يحمر وجهه الشريف؟ بل اين تلك الخصوصية والقرآن الكريم يقول: “هن لباس لكم وانتم لباس لهن” (البقرة: 187)؟ وكيف نستطيع ان نفسر لأطفالنا الآيات “ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة…” (المؤمنون: 14) من دون ان نبدأ بالحديث عن العملية الجنسية بين الانثى والذكر؟ ان المذهب الطُّهراني الذي يعقّم (كما يعقم الكحول من الجراثيم) الثقافة من الافكار واللغة من الكلمات، وهو المذهب السائد اليوم، لا يخدم الاسلام في شيء. لأنه يقوم على إبعاد الدين عن خصائصه الاصلية، وعن التصاقه بالطبيعة، وعن انصياعه لقوانين الفطرة البشرية. وهذا المذهب الطارئ على ثقافتنا العربية المنفتحة اصلا، يجد له مثيلا في تاريخ الاديان الاخرى، كالمسيحية في الغرب مثلا. وبذلك يكون اتباعه -شاؤوا أم أبوا- ناهلين من المعين نفسه الذي نهل منه طهرانيو الغرب، وهو التشدد المَرَضي الذي يُرَجّس (اي يعتبره رجسا) كل شيء، ابتداء من الجنس والمرأة. فكلما ازداد الحظر والمنع ازداد الهوس بالجنس ليصبح حالة مرضية، وكان دليلا على انه قد تحول لدى مانعيه الى ما يشبه الوسواس القهري المسيطر على الذهن. إجمالاً، فإن ما يعرضه تاريخ المجتمع الإسلامي، منذ زمن الرسول، يوضح أن نظرة الإسلام إلى الجنس لم تعتبره "تابو" يُمنع الحديث عنه أو الاقتراب منه. وهذا ما دفع بالعديد من الباحثين المعاصرين إلى المقارنة بين الجنس في الإسلام كشهوة جائزة بل مقدّسة، وبين الجنس في المسيحية التي تتعامل مع الجسد باعتباره دَنَساً. ويرى الباحث الاجتماعي إسحاق كنعو أن "المسيحية بُنيت على أن الجسد فانٍ، وهي لم تعطه حقّه، وقد جعلت سنوات المسيحية الأولى من الجنس رجساً من عمل الشيطان". في المقابل، قال نبي الإسلام إن "في بُضع (جماع) أحدكم صدقة"، و"إن الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، و"النكاح من سنّتي، ومن لم يعمل بسنّتي فليس منّي". ويروي البعض عن النبي أنه قال: "لا تأتوا نساءكم كالبهائم، بل اجعلوا بينكم وبينهن رسول. قالوا: ما الرسول؟ قال: القبلة". وللتدليل على إيجابية تعاطي الإسلام مع مسألة الجنس، فإنه، برغم تحريمه التناكح في أوقات الصيام، أجاز ما دون ذلك من أنواع المداعبة بين الرجل والمرأة. وفي حديث رواه أبو داوود وأحمد والبخاري ومسلم، وغيرهم، قالت السيدة عائشة: "كان الرسول يُقبلني وهو صائم، ويمص لساني وهو صائم". ومن هنا تساءل بعض الباحثين: إذا كان الإسلام يمنع التمتع بالجنس، أو أنه يُقصر العلاقة الجنسية على التكاثر، فلماذا يجيز المداعبة بين الرجل والمرأة في أوقات الصيام؟ ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل تخطاه إلى غير ذلك، كمثل ما ورد عن أن امرأة جاءت إلى الرسول، تشتكي إليه من أن زوجها يناكحها إذا صامت في غير رمضان فيفطرها. وكان زوجها عنده، فسأله الرسول عن ذلك، فأجاب الزوج: "أنا رجل شاب لا أصبر". فما كان من الرسول إلا أن قال: "لا تصوم المرأة إلا بإذن زوجها" (ينطبق ذلك على الصيام في غير رمضان).



 اليوم لم يعد يتم في الإسلام تناول هذا الموضوع إلاَّ على مستوًى معياري تقريبًا: يحدِّد متى يجوز لي مناقشة شيء ما ومع مَنْ - ومتى لا يجوز ذلك؟ وهذا التقييد يعتبر جديدًا. والأسوأ من ذلك: إذا كنت تريد اليوم أن تعرف شيئًا ما حول موضوع الجنس، فيجب عليك أن تقرأ النصوص القانونية القديمة. ولكن هذا يؤدِّي إلى مشكلات، وذلك لأنَّ المجتمع قبل عصر الصناعة لا يمكن مقارنته بمجتمعنا المعاصر. ففي تلك الأيَّام كان المرء يتزَّوج بعد فترة قصيرة من بلوغه سن النضج الجنسي، . إن نبذ الجنس وتجريم الخوض في مواضيعة واعتبارها خروجاً عن المألوف والأخلاقي   ظاهرة حديثة: إذ لم تعد الأمور الغامضة مرغوبة الآن. بينما كان يتم قبل بضعة قرون تبادل مختلف الآراء حول موضوع الجنس بكلِّ حرية وهدوء. المجتمع يتصوَّر وجود آباء أو أمَّهات عازبات وأسر صغيرة. ولذلك لا يمكن تطبيق معايير تلك الفترة بشكل مباشر على مجتمعنا المعاصر.
ومع ذلك فبدلا من الانفتاح لجأ الناس للتشدد باسم الدين ويادعاء أنه يأمر بذلك ، إن السؤال الصعب هو فيما كان السبب في هذا التحول الدرامي في عقلية الجماهير التي تظن أنها متدينة تطبق ما جاء في الكتب المقدسة باعتبار الجنس أحد التابوهات المحرم التطرق إليها مع العامة وبشكل مشاعي عكس ما كانت عليه الأمه قبل وبعد الإسلام ولمدة طويلة .
لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال. الاستعمار هو أحد الأسباب. والسبب الآخر هو أنَّ الدين قد أخذ طابعًا إيديولوجيًا. ولم يعد يُمثِّل فلسفةً للحياة وأسلوبًا للحياة، بل لقد بات من المفترض أن يُقدِّم الدين إجابة واضحة على كلِّ شيء. ولكن هذه مجرَّد ظاهرة حديثة: إذ لم تعد الأمور الغامضة مرغوبة الآن. بينما كان يتم قبل بضعة قرون تبادل مختلف الآراء حول موضوع الجنس بكلِّ حرية وهدوء.
لقد ألف الإمام السيوطي قبل خمسمائة عام كتابًا حول "الحركات الجنسية". وهذا الكتاب يبدو مثل الكاماسوترا… وقد كتب بالذات العديد من الأعمال حول موضوع الجنس. ومن بين هذه الأعمال كتابان يتناولان الوضعيات في الجنس - حتى بصورة أكثر إثارة للإعجاب مما يرد في الكاماسوترا. والإمام السيوطي تعامل أيضًا من الناحية اللغوية مع هذا الموضوع؛ ففي اللغة العربية يوجد نحو تسعمائة مصطلح للتعبير عن الممارسة الجنسية وحدها. كل ما فعله الإسلام أنه حرّم بعض أنواع النكاح التي كانت شائعة قبله، وقنّن العلاقة الجنسية بعقد الزواج الذي نعرفه، مع أنواع فرعية منه، بحسب المدارس الفقهية، كزواج المسيار، وزواج المتعة، وزواج المحَلَل. لكنّ جميعها عموماً اشترطت العقد لإباحة النكاح، مع خلاف في ما بينها على تعريف "العقد" وشروط صحته.

هناك تعليقان (2):

F@wqyh يقول...

موضوع متميز كالعادة

Eng.gate يقول...

شكراً أستاذة فوقية

المتابعون

من سجلات المحاكم (1) - التابوت

سلسلة بوليسية إذاعية مستوحاة من قضايا حقيقية ، كتب السيناريو والحوار " مصطفى عبد اللطيف " أداء صوتي : إبراهيم غريب ، د . عمرو راتب...

اشترك في خدمة Google Feedburner

Mastodon